فصل: حوادث سنة سبعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر استيلاء الموفق على مدينة الخبيث الشرقية

لما علم الموفق أن أصحابه قد تمرنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوها صمم العزم على العبور إلى محاربة الخبيث من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسًا عاما وأحضر قواد المستأمنة وفرسانهم فوقفوا بحيث يسمعون كلامه ثم كلمهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم ومعصية الله عز وجل وأن ذلك قد أحل له دمائهم وأنه غفر لهم زلتهم ووصلهم وأن ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته وأنهم لن يرضوا ربهم وسلطانهم بأكثر من الجد في مجاهدة الخبيث وأنهم ليعرفون مسالك العسكر ومضايق مدينته ومعاقلها التي أعدها فهم أولى أن يجتهدوا في الولوج على الخبيث والوغول إلى حصونه حتى يمكنهم الله منه فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد ومن قصر منهم فقد أسقط منزلته وحاله‏.‏

فارتفعت أصواتهم بالدعاء له والاعتراف بإحسانه وبما هم عليه من المناصحة والطاعة وأنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقربهم منه وسألوه أن يفردهم ناحية ليظهر من نكايتهم في العدوما يعرف به إخلاصهم وطاعتهم فأجابهم إلى ذلك وأثنى عليهم ووعدهم وكتب في جمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته وأحصى ما في الشذا والسميريات وأنواع السفن فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة ويركبها الناس في حوائجهم وسوى ما كان لكل قائد من السميريات والحربيات والزواريق‏.‏

فلما تكاملت السفن تقدم إلى ابنه أبي العباس وقواده بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتهأن فسير ابنه أبا العباس إلى ناحية دار المهلبي أسفل العسكر وكان قد شحنها بالرجال والمقاتلين وأمر جميع أصحابه بقصد دار الخبيث وإحراقهأن فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار المهلبي وسار هوفي الشذأن وهي مائة وخمسون قطعة فيها أنجاد غلمانه وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف وأمرهم أن يسيروا على جانبي النهر معه إذا سار وأن يقفوا معه إذا وقف ليتصرفوا بأمره‏.‏

وبكر الموفق لقتال الفاسقين يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين وكانوا قد تقدموا إليهم يوم الاثنين وواقعوهم وتقدم كل طائفة إلى الجهة التي أمرهم بها فلقيهم الزنج واشتدت الحرب وكثر القتل والجراح في الفريقين وحامى الفسقة عن الذي اقتصروا عليه من مدينتهم واستماتوا وصبروا فنصر الله أصحاب الموفق فانهزم الزنج وقتل منهم خلق كثير وأسر من أنجادهم وشجعانهم جمع كثير فأمر الموفق فضربت أعناق الأسرى في المعركة وقصد بجمعه الدار التي يسكنها الخبيث وكان قد لجأ إليها وجمع أبطال أصحابه للمدافعة عنها فلم يغنوا عنها شيئا وانهزموا عنها وأسلموها ودخلها أصحاب الموفق وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وولده وأثاثه فنهبوا ذلك أجمع وأخذوا حرمه وأولاده وكانوا عشرين ما بين صبية وصبي وسار الخبيث هاربًا نحودار المهلبي لا يلوي على أهل وال مال وأحرقت داره وأتي الموفق بأهل الخبيث وأولاده فسيرهم إلى بغداد‏.‏

وكان أصحاب أبي العباس قد قصدوا دار المهلبي وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين فغلبوهم عليها واشتغلوا بنهبها وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين وأولادهم وجعل من ظفر منهم بشيء حمله إلى سفينته فعلوا في الدار ونواحيها فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا فيهم مقتلة يسيرة‏.‏

وكان جماعة من غلمان الموفق الذي قصدوا دار الخبيث تشغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضا فأطمع ذلك الزنج فيهم فأكبوا عليهم فكشفوهم واتبعوا آثارهم وثبت جماعة من أبطال الموفق فردوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم ودامت الحرب إلى العصر فأمر الموفق غلمانه بصدق الحملة عليهم ففعلوا فانهزم الخبيث وأصحابه وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضا فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف أصحابه إلى إحسانهم فردهم وقد غمنوا واستنقذوا جمعًا من النساء المأسورات كن يخرجن ذلك اليوم أرسالًا فيحملن إلى الموفقية‏.‏

وكان أبوالعباس قد أرسل في ذلك اليوم قائدأن فأحرق ثم بيادر كانت ذخيرة للخبيث وكان ذلك مما أضعف به الخبيث وأصحابه ثم وصل إلى الموفق كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون في القدوم عليه فأمره بذلك وأخر القتال إلى أن يحضر‏.‏

وفيها خالف لؤلؤ أحمد بن طولون صاحب مصر على مولاه أحمد بن طولون وفي يده حمص وقنسرين وحلب وديار مصر من الجزيرة وسار إلى بالس فنهبهأن وكاتب الموفق في المسير إليه واشترط شروطأن فأجابه أبوأحمد إليهأن وكان بالرقة فسار إلى الموفق فنزل قرقيسيأن وبها ابن صفوان العقيلي فحاربه وأخذها منه وسلمها إلى أحمد بن مالك ابن طوق وسار إلى الموفق فوصل إليه وهويقاتل الخبيث العلوي‏.‏

  ذكر مسير المعتمد إلى الشام وعوده من الطريق

وفيها سار المعتمد نحو مصر وكان سبب ذلك أنه لم يكن له من الخلافة غير اسمها ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا في كثير وكان الحكم كله لموفق والأموال تجبى إليه فضجر المعتمد من ذلك وأنف منه فكتب إلى أحمد بن طولون يشكوإليه حاله سرًا من أخيه الموفق فأشار عليه أحمد باللحاق به بمصر ووعده النصرة وسير عسكرًا إلى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم فاغتمن المعتمد غيبة الموفق عنه فسار في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد فأقام بالكحيل يتصيد‏.‏

فلما سار إلى عمل إسحاق بن كنداجيق وكان عامل الموصل وعامة الجزيرة وثب ابن كنداجيق بمن مع المعتمد من القواد فقبضهم وهم نيزك وأحمد بن خاقان وخطارمش فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم وكان قد كتب إليه صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق وكان سبب وصوله إلى قبضهم انه أظهر أنه معهم في طاعة المعتمد إذ هوالخليفة ولقيهم لما صاروا إلى عمله وسار معهم عدة مراحل فلما قارب عمل ابن طولون ارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد وقواد ولم يترك ابن كنداجيق أصحابه يرحلون ثم خلا بالقواد عند المعتمد وقال لهم‏:‏ إنكم قاربتم عمل ابن طولون والأمر أمره وتصيرون من جنده وتحت يده أفترضون بذلك وقد علمتم أنه كواحد منكم وجرت بينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار ولم يرحل المعتمد ومن معه فقال ابن كنداجيق‏:‏ قوموا بنا نتناظر في غير حضرة أمير المؤمنين فأخذ بأيديهم إلى خيمته لأن مضاربهم كانت قد سارت فلما دخلوا خيمته قبض عليهم وقيدهم وأخذ سائر من مع المعتمد من القواد فقيدهم فلما فرغ من أمورهم مضى إلى المعتمد فعذله في مسيره من دار ملكه وملك آبائه وفراق أخيه الموفق إلى الحال التي هوبها من حرب من يريد قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم ثم حمله والذين كانوا معه حتى أدخلهم سامرا‏.‏

وفيها كانت وقعة بمكة بين جيش لأحمد بن طولون وبين عسكر الموفق في ذي القعدة‏.‏

وكان سببها أن أحمد بن طولون سير جيشًا مع قائدين إلى مكة فوصلوا إليها وجمعوا الحناطين والجزارين وفرقوا فيهم مالًا وكان عامل مكة هارون بن محمد إذ ذاك ببستان ابن عامر قد فارقها خوفًا منهم فوافى مكة جعفر الناعمودي في ذي الحجة في عسكر وتلقاه هارون بن محمد في جماعة فقوي بهم جعفر والتقوا هم وأصحاب ابن طولون فاقتتلوا وأعان أهل خراسان جعفرا فقتل من أصحاب ابن طولون مائتي رجل وانهزم الباقون وسلبوا وأخذت أموالهم واخذ جعفر من القائدين نحومائتي ألف دينار وأمن المصريين والجزارين والحناطين وقرئ كتاب المسجد الجامع بلعن ابن طولون وسلم الناس وأموال التجار‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في المحرم من هذه السنة قطع الأعراب الطريق على قافلة من الحاج بين ثور وسميراء فسلبوهم وساقوا نحوًا من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناسًا كثيرًا‏.‏

وفيها انخسف القمر وغاب منخسفا وانكسفت الشمس فيه أيضًا آخر النهار وغابت منكسفة فاجتمع في المحرم كسوفان‏.‏

وفيها وفي صفر وثبت العامة ببغداد بإبراهيم الخليجي فانتهبوا داره وكان سبب ذلك أن غلامًا له رمى امرأة بسهم فقتلها فاستعدى السلطان عليه فامتنع ورمى غلمانه الناس فقتلوا جماعة وجرحوا فثارت بهم العامة فقتلوا فيهم رجلين من أصحاب السلطان ونهبوا منزله ودواببه وخرج هاربا فجمع محمد بن عبيد اله بن عبد الله بن طاهر وكان نائب أبيه دواب إبراهيم وما أخذ له فرده عليه‏.‏

وفيها وجه إلى أبي الساج جيش انصرف من مكة فسيره إلى جدة فأخذ للمخزومي مركبين فيهما مال وسلاح‏.‏

وفيها وثب خلف صاحب أحمد بن طولون بالثغور الشامية وعامله عليها بازمار الخادم مولى مفلح بن خاقان فحبسه فوثب به جماعة فاستنقذوا بازمار وهرب خلف وتركوا الدعاء لابن طولون فسار إليهم ابن طولون ونزل أذنة فاعتصم أهل طرسوس بها ومعهم بازمار فرجع عنهم ابن طولون إلى حمص ثم إلى دمشق فأقام بها‏.‏

وفيها قام رافع هرثمة بما كان الخجستاني غلب غليه من مدن خراسان فاجتبى عدة من كور خراسان خراجها لبضع عشرة سنة فأفقر أهلها وأخربها‏.‏

وفيها كانت وقعة بين الحسنيين والحسينيين بالحجاز والجعفريين فقتل من الجعفريين ثمانية نفر

وفيهأن في جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات والرحبة وولى محمد بن احمد الكوفة وسوادهأن فلقي محمد الهيصم العجلي فانهزم الهيصم‏.‏

وفيها توفي عيسى بن الشيخ بن الشليل الشيباني ويده أرمينية وديار بكر‏.‏

وفيها لعن المعتمد أحمد بن طولون في دار العامة بلعنه على المنابر وولى إسحاق بن كنداجيق على أعمال ابن طولون وفوض إليه من باب الشماسية إلى إفريقية وولى شرطة الخاصة‏.‏

وكان سبب هذا اللعن أن ابن طولون قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز فتقدم الموفق إلى المعتمد بلعنه ففعل مكرها لأن هوى المعتمد كان مع ابن طولون‏.‏

وفيها كانت وقعة بين ابن أبي الساج والأعراب فهزموه ثم بيتهم فقتل منهم وأسر ووجه بالرؤوس والأسرى إلى بغداد‏.‏

وفيها في شوال دخل ابن أبي الساج رحبة مالك بن طوق بعد أن قاتله أهلها فغلبهم وقتلهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام ثم سار ابن أبي الساج إلى قرقيسيا فدخلها‏.‏

وحج بالناس هارون بن محمد ابن إسحاق الهاشمي‏.‏

وفيها خرج محمد بن الفضل أمير صقلية في عسكر إلى ناحية رمطة وبلغ العسكر إلى قطانية فقتل كثيرًا من الروم وسبى وغمن ثم انصرف إلى بلرم في ذي الحجة‏.‏

وفيها توفي أحمد بن مخالد مولى المعتصم وهومن دعاة المعتزلة وأخذ الكلام عن جعفر بن مبشر‏.‏

وفيها توفي سليمان بن حفص بن أبي عصفور الإفريقي وكان معتزليًا يقول بخلق القرآن وأراد أهل القيروان فسلم لذلك وصحب بشرًا المريسي وأب الهذيل وغيرهما من المعتزلة‏.‏

  حوادث سنة سبعين ومائتين

  ذكر قتل الخبيث صاحب الزنج

قد ذكرنا من حرب الزنج وعود الموفق عنهم مؤيدًا بالظفر فلما عاد من قتالهم إلى مدينة الموفقية عزم على مناجزة الخبثاء فأتاه كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في المسير إليه فأذن له وترك القتال ينتظره ليحضر القتال فوصل إليه ثالث المحرم من هذه السنة في جيش عظيم فأكرمه الموفق وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم واحسن إليهم وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم وأضعف ما كان لهم ثم تقدم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الخبثاء‏.‏

وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب وقطعت القناطر والجسور التي عليه أحدث سكرًا في النهر وجانبيه وجعل في وسط النهر بابًا ضيقًا لتحتد جرية الماء فيه فتمتنع الشذا من دخوله في الجزر ويتعذر خروجها منه في المد فرأى الموفق أن جريه لا يتهيأ إلا بقلع هذا السكر فحاول ذلك فاشتدت محاماة الخبثاء عليه وجعلوا يزيدون كل يوم فيه وهومتوسط دورهم والمروية تسهل عليهم وتعظم على من أراد قلعه فشرع في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليتمرنوا على قتالهم ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم فأمر لؤلؤًا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر ففعل فرأى الموفق من شجاعة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه ما سره فأمر لؤلؤًا بصرفهم إشفاقًا عليهم ووصلهم الموفق وأحسن إليهم‏.‏

وألح على هذا السكر وكان يحارب المحامين عليه وأصحابه وأصحاب لؤلؤ وغيرهم والفعلة يعملون في قلعة ويحارب الخبيث وأصحابه في عدة وجوه فيحرق مساكنهم ويقتل مقاتليهم واستأمن إليه الجماعة وكان قد بقي لخبيث وأصحابه بقية من أرضين بناحية النهر الغربي لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان وبه جماعة يحفظونه فسار إليهم أبوالعباس وفرق أصحابه من جهاتهم وجعل كمينأن ثم أوقع بهم فانهزموأن فكلما قصدوا جهة خرج عليهم من يقاتلهم فيهأن فقتلوا عن آخرهم لم يسلم منهم إلا الشريد فأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله وقطع القنطرتين ولم يزل الموفق يقاتلهم على سكرهم حتى تهيأ له فيه ما أحبه في خرقه‏.‏

فلما فرغ منه عزم على لقاء الخبيث فأمر بإصلاح السفن والآلات للماء والظهر وتقدم إلى أبي العباس ابنه أن يأتي الخبيث من ناحية دار المهلبي وفرق العساكر من جميع جهاته وأضاف المستأمنة إلى شبل وأمره بالجد في قتال الخبيث وأمر الناس أن لا يزحف أحد حتى يحرك علمًا أسود كان نصبه على دار الكرماني وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت‏.‏

وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم فعجل بعض الناس وزحف نحوهم فلقيه الزنج فقتلوه منهم وردوهم إلى مواقفهم ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض وأمر الموفق بتحريك العلم الأسود والنفخ في البوق فزحف الناس في البر والماء يتلوبعضهم بعضا فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترأوا بما تهيأ لهم على من كان يسرع إليهم فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة واشتد القتال وقتل من الفريقين جمع كثير فانهزم أصحاب الخبيث وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون واختلط بهم ذلك اليوم أصحاب الموفق فقتل منهم ما لا يحصى عددا وغرق منهم مثل ذلك وحوى الموفق المدينة بأسرها فغمنها أصحابه واستنقذوا من كان بقي من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وبأخويه‏:‏ الخليل ومحمد وأولادهما وعبر بهم إلى المدينة الموفقية‏.‏

ومضى الخبيث في أصحابه ومعه ابنه انكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هاربين عامدين إلى موضع كان الخبيث قد أعده ملجأ إذا غلب على مدينته وذلك المكان على النهر المعروف بالسفياني وكان أصحاب الموفق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق وتقدم الموفق في الشذا نحونهر السفياني ومعه لؤلؤ وأصحابه فظن أصحاب الموفق أنه رجع إلى مدينتهم الموفقية فانصرفوا إلى سفنهم بما قد حووا وانتهى الموفق ومن معه إلى عسكر الخبيث وهم منهزمون واتبعهم لؤلؤ في أصحابه حتى عبر السفياني فاقتحم لؤلؤ بفرسه وابتعه أصحابه حتى انتهى إلى النهر المعروف بالفربري فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه فأوقعوا به وبمن معه فهزمهم حتى عبر نهر السفياني ولؤلؤ في أثرهم فاعتصموا بجبل وراءه وانفرد لؤلؤ وأصحابه بأتباعهم إلى هذا المكان في آخر النهار فأمر الموفق بالانصراف فعاد مشكورًا محمودًا لفعله فحمله الموفق معه وجدد له من البر والكرامة ورفعة المنزلة ما كان مستحقًا له ورجع الموفق فلم ير أحدًا من أصحابه بمدينة الزنج فرجع إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح وهزيمة الزنج وصاحبهم‏.‏

وكان الموفق قد غضب على أصحابه بمخالفتهم أمره وتركهم الوقوف حيث أمرهم فجمعهم جميعا ووبخهم على ذلك وأغلظ لهم فاعتذروا بما ظنوه من انصرافه وانهم لم يعلموا بمسيره

ولوعلموا ذلك لأسرعوا نحوه ثم تعاقدوا وتحالفوا بمكانهم على أن لا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحوالخبيث حتى يظفروا به فإن أعياهم أقاموا بمكانه حتى يحكم الله بينهم وبينه‏.‏

وسألوا الموفق أن يرد السفن التي يعبرون فيها إلى الخبيث لينقطع الناس عن الرجوع فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهب‏.‏

وأقام الموفق بعد ذلك إلى الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه وأمر الناس عشية الجمعة بالمسير إلى حرب الخبثاء بكرة السبت وطاف عليهم هوبنفسه يعرف كل قائد مركزه والمكان الذي يقصده وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر فعبر بالناس وأمر برد السفن فردت وسار يقدمهم إلى المكان الذي قدر أن يلقاهم فيه‏.‏

وكان الخبيث وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم وأملوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه والرجالة قد سبقوا الجيش فأوقعوا بالخبيث وأصحابه وقعة هزموهم بها وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم وانقطع الخبيث في جماعة من حماة أصحابه وفيهم المهلبي وفارقه ابنه انكلاي وسليمان بن جامع فقصد كل فريق منهم جمعًا كثيفًا من الجيش‏.‏

وكان أبوالعباس قد تقدم فلقي المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان فوضع أصحابه فيهم السلاح ولقيهم طائفة أخرى فأوقعوا بهم أيضا وقتلوا منهم جماعة وأسروا سليمان بن جامع فأتوا به الموفق من غير عهد ولا عقد فاستبشر الناس بأسره وكثر التكبير وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحاب الخبيث غناء عنه وأسر من بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني وكان أحد أمراء جيوشه فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وجعلهم في شذاة لأبي العباس‏.‏ثم إن الزنج الذين انفردوا مع الخبيث حملوا على الناس حملة أزالوهم عن مواقفهم فقتروا فأحس الموفق بفتورهم فجد في طلب الخبيث وأمعن فتبعه أصحابه وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه البشير بقتل الخبيث وأتاه بشير آخر ومعه كف ذكراها كفه فقوي الخبر عنده ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث فأدناه منه وعرضه على جماعة من المستأمنة فعرفوه فخر لله ساجدا وسجد معه الناس وأمر الموفق برفع رأسه على قناة فتأمله الناس فعرفوه وكثر الضجيج بالتحميد‏.‏

وكان مع الخبيث لما أحيط به المهلبي وحده فولى عنه هاربا وقصد نهر الأمير فألقى نفسه فيه يريد النجاة وكان انكلاي قد فارق أباه قبل ذلك وسار نحوالديناري‏.‏

ورجع الموفق ورأس الخبيث بين يديه وسليمان معه وأصحابه إلى مدينته وأتاه من الزنج عالم

كبير يطلبون الأمان فأمنهم وانتهى إليه خبر انكلاي والمهلبي ومكانهما ومن معهما من مقدمي الزنج فبث الموفق أصحابه في طلبهم وأمرهم بالتضييق عليهم فلما أيقنوا أن لا ملجأ أعطوا بأيديهم فظفر بهم وبمن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف فأمر بالاستيثاق من المهلبي وانكلاي وكان ممن هرب قرطاس الرومي الذي رمى الموفق بالسهم في صدره فانتهى إلى رامهرمز فعرفه رجل فدل عليه عامل البلد فأخذه وسيره إلى الموفق فقتله أبوالعباس‏.‏

وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد وكان درمويه من أنجاد الزنج وأبطالهم وكان الخبيث قد وجهه قبل هلاكه بمدة إلى موضع كثير الشجر والأدغال والآجام متصل بالبطيخة وكان هوومن معه يقطعون هنالك على السابلة في زواريق خفاف فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الصغار الضيقة واعتصموا بالأدغال وإذا تعذر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة ويعبرون على قرى البطيحة ويقطعون الطريق فظفر بجماعة من عسكر الموفق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم فقتل الرجال وأخذ النساء فسألهن عن الخبر فأخبرهن بقتل الخبيث وأسر أصحابه وقواده ومصير كثير منهم إلى الموفق بالأمان وإحسانه إليهم فسقط في يده ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه فأرسل يطلب الأمان فأجابه الموفق إليه فخرج وجميع من معه حتى وافى عسكر الموفق فأحسن إليهم وأمنهم‏.‏

فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة وردها إلى أربابها ظاهرا فعلم بذلك حسن نيته فازداد إحسان الموفق إليه وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحي التي دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم فسار الناس إلى ذلك وأقام الموفق بالمدينة الموفقية ليأمن الناس بمقامه وولى البصرة والأبلة وكور دجلة رجلًا من قواده قد حمد مذهبه وعلم حسن سيرته يقال له العباس بن تركس وأمره بالمقام بالبصرة وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة محمد بن حماد‏.‏

وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه راس الخبيث ليراه الناس فبلغها لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين وكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة اشهر وستة أيام وقيل في أمر الموفق وأصحاب الزنج أشعار كثيرة فمن ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي‏:‏ أقول وقد جاء البشير بوقعة أعزت من الإسلام ما كان واهيا جزى الله خير الناس للناس بعدما أبيح حماهم خير ما كان جازيا وتجديد ملك قد وهى بعد عزه واخذ يثارات تبين الأعاديا ورد عمارات أزيلت وأخربت ليرجع فيء قد تخرم وافيا وترجع أمصار أبيحت وأحرقت مرارًا فقد أمست قواءً عوافيا ويشفي صدور المسلمينبوقعة يقر بها منها العيون البواكيا ويتلى كتاب الله في كل مسجد ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا فأعرض عن جناته ونعيمه وعن لذة الدنيا وأصبح عاريا وهي قصيدة طويلة وقال غيره في هذا المعنى أيضًا شعرًا كثيرًا وقد انقضى أمر الزنج‏.‏

  ذكر الظفر بالروم

وفي هذه السنة خرجت الروم في مائة ألف فنزلوا على قلمية وهي على ستة أميال من طرسوس فخرج إليهم بازمار ليلًا فبيتهم في ربيع الأول فقتل منهم فيما يقال سبعين ألفا وقتل مقدمهم وهوبطريق البطارقة وقتل أيضًا بطريق الفنادين وبطريق الباطليق وأفلت بطريق قرة وبه عدة جراحات وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة وصليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر وأخذ خمسة عشر ألف دابة ومن السروج وغير ذلك وسيوفًا محلاة وأربع

كراسي من ذهب ومائتي كرسي من فضة وآنية كثيرة ونحوًا من عشرة آلاف علم ديباج وديباجًا كثيرًا وبزيون وغير ذلك‏.‏

  ذكر وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه محمد

وفيها توفي الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان في رجب وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام وولي مكانه أخوه محمد ابن زيد‏.‏

وكان الحسن جوادًا امتدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم وكان متواضعًا لله تعالى‏.‏حكي عنه أنه مدحه شاعر فقال‏:‏ اله فرد وابن زيد فرد فقال‏:‏ بفيك الحجر يا كذاب هلا قلت الله فرد وابن زيد عبد‏!‏ ثم نزل عن مكانه وخر ساجدًا له تعالى وألصق خده بالتراب وحرم الشاعر‏.‏

وكان عالمًا بالفقه والعربية مدحه شاعر فقال‏:‏ لا تقل بشرى ولكن بشريان عزة الداعي ويوم المهرجان فقال له‏:‏ كان الواجب أن تفتتح الأبيات بغير لأن فإن الشاعر المجيد يتخير لأول القصيدة ما يعجب السامع ويتبرك به ولواتدأت بالمصراع الثاني لكان أحسن فقال له الشاعر‏:‏ ليس في وحكي عنه أنه غنى عنده مغن بأبيات الفضل بن العباس في عتبة بن أبي لهب التي أولها‏:‏ وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من بيت العرب فلما وصل إلى قوله‏:‏ برسول الله وابني عمه وبعباس بن عبد المطلب غير البيت فقال‏:‏ لا بعباس بن عبد المطلب فغضب الحسن وقال‏:‏ يا ابن اللخناء تهجوبني عمنا بين يدي وتحرف ما مدحوا به لئن فعلتها مرة ثانية لأجعلنها آخر غنائك‏.‏

  ذكر وفاة أحمد بن طولون وولاية ابنه خمارويه

في هذه السنة توفي احمد بن طولون صاحب مصر والشام والثغور الشامية‏.‏

وكان سبب موته أن نائبه بطرسوس وثب عليه بازمار الخادم وقبض عليه وعصى على أحمد وأظهر الخلاف فجمع أحمد العساكر وسار إليه فلما وصل أذنة كاتبه وراسله يستميله فلم يلتفت إلى رسالته فسار إليه احمد ونازله وحصره فخرق بازمار نهر البلد على منزلة العسكر فكاد الناس يهلكون فرحل أحمد مغيظًا حنفًا وكان الزمان شتاء وأرسل إلى فلما عاد إلى أنطاكية أكل لبن الجواميس فأكثر منه فأصابه منه هيضة واتصلت حتى صار منها ذرب وكان الأطبار يعالجونه وهو يأكل سرا فلم ينجح الدواء فتوفي رحمه الله‏.‏

وكانت إمارته نحوست وعشرين سنة وكان عاقلًا حازما كثير المعروف والصدقة متدينا يحب العلماء وأهل الدين وعمل كثيرًا من أعمال البر ومصالح المسلمين وهوالذي بنى قلعة يافا وكانت المدينة بغير قلعة وكان يميل إلى مذهب الشافعي ويكرم أصحابه‏.‏

وولي بعده ابنه خمارويه وأطاعه القواد وعصى عليه نائب أبيه بدمشق فسير إليه العساكر فأجلوه وساروا من دمشق إلى شيزر‏.‏

  ذكر مسير إسحاق بن كنداجيق إلى الشام

لما توفي احمد بن طولون كان إسحاق بن كنداجيق على الموصل والجزيرة فطمع هووابن أبي الساج في الشام واستصغرا أولاد أحمد وكاتبا الموفق بالله في ذلك واستمداه فأمرهما بقصد البلاد ووعدهما إنفاذ الجيوش فجمعا وقصدا ما يجاورهما من البلاد فاستوليا عليه وأعانهما النائب بدمشق لأحمد بن طولون ووعدهما الانحياز إليهما فتراجع من بالشام من نواب أحمد بانطاكية وخلب وحمص وعصى متولي دمشق واستولى إسحاق على ذلك‏.‏

وبلغ الخبر إلى أبي الجيش خمارويه بن أحمد فسير الجيوش إلى الشام فملكوا دمشق وهرب النائب الذي كان بها وسار عسكر خمارويه من دمشق إلى شيزر لقتال إسحاق بن كنداجيق وابن أبي الساج فطاولهم إسحاق ينتظر المدد من العراق وهجم الشتاء على الطائفتين وأضر بأصحاب ابن طولون فتفرقوا في المنازل بشيزر‏.‏

ووصل العسكر العراقي إلى كنداجيق وعليهم أبوالعباس أحمد بن الموفق وهوالمعتضد بالله فلما وصل سار مجدًا إلى عسكر خمارويه بشيزر فلم يشعروا حتى كبسهم في المساكن ووضع السيف فيهم فقتل منهم مقتلة عظيمة وسار من سلم إلى دمشق على أقبح صورة فسار المعتضد إليهم فجلوا عن دمشق إلى الرملة وملك هودمشق ودخلها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين وأقام عسكر ابن طولون بالرملة فأرسلوا إلى خمارويه يعرفونه بالحال فخرج من مصر في عساكره قاصدًا إلى الشام‏.‏